في حرب غزة المؤلمة، يبدو ان المخططين العسكريين الإسرائيليين قد جمعوا بين تجربتي حربي الخليج الثانية والثالثة، ففي الثانية قامت القوات الجوية والصاروخية بتدمير معظم الأهداف الاستراتيجية ومراكز القوة للطرف الآخر، قبل الشروع بالعمليات البرية، فيما شرعت القوات البرية في الثالثة بعملياتها فور بدء الضربات الجوية، ما شكل مباغتة لمخططي المجابهة.
وفي العمليات الجارية، ركزت القوات الإسرائيلية على تدمير المواقع الأمنية والعسكرية لحماس، وتجريدها من عناصر الدعم اللوجستي لإدامة المعركة، وشل منظومة الاتصالات لحرمانها من القدرة على إدارة العمليات من المقرات والوسائل المعدة مسبقاً، وبذلك تفقد حماس السيطرة على الوضع تدريجياً، لعدم وجود فسحة للمناورة التكتيكية لمجابهة تطورات الموقف.
مع تدمير الأهداف المحددة للقصف الجوي، من المتوقع الانتقال الى مرحلة مزدوجة من عمليات الحوم المباشر المكثف للهليكوبترات المسلحة فوق غزة لمعالجة الأهداف الطارئة، وشن ضربات مركزة بنيران المدفعية على أهداف محددة، وهو ما قد يكون بوشر به على نطاق محدود فعلاً. وإذا ما حصل تطور على مستوى التنفيذ، فإن الحرب ستأخذ بعداً، يشكل مرحلة اقتحام تدريجي على طريقة قضم المناطق، يتحدد نطاقه في ضوء تأثيرات الموقف الدولي على النوايا والخطط الإسرائيلية.
واحدة من مشاكل حماس أنها لم تقدر توازنات القوى، واستعدادات الطرف الآخر كما ينبغي، ولم تستوعب الدروس والمعطيات التي تمر بها المنطقة، بانية تصوراتها على قواعد حرب الأنصار والعمليات غير النظامية، متجاهلة القوة العسكرية الإسرائيلية الضاربة في مجالين أساسيين، هما القوة الجوية والاستخبارات، فقوة كالطيران الإسرائيلي لا يمكن مجابهتها بوسائل دفاع جوي بسيطة وفردية، ظهر أنها ليست موجودة أصلاً، وإن ظهرت مستقبلاً قطعة هنا وأخرى هناك فلن تترك أثراً على سير العمليات، ولن تحدث خسائر في الطائرات المغيرة، عدا ما يمكن حدوثه تجاه الهليكوبترات. أما قوة الاستخبارات فلا تكمن في التقدم التقني فحسب، بل في نقاط خلل كثيرة وثغرات لا حصر لها على الجانب الفلسطيني. كما أن حماس لم تأخذ على ما يبدو المعطيات الدولية والإقليمية بعين الاعتبار، ولم تدرك أن منطقة الشرق الأوسط مهيأة لتطورات حاسمة، أهمها الوضع في العراق وحقيقة وجدية تصادم المصالح العربية والغربية مع السياسات الإيرانية.
هنالك من يعتقد أن حرب غزة ليست إلا جزءا سيتبعه ضرب حزب الله في لبنان، لتشذيب الفروع الإيرانية، تمهيداً لعزل إيران وقوقعتها، ضمن مخطط يستهدف اتخاذ إجراءات حاسمة، لإحباط مشاريعها النووية، ووقف تدخلاتها في الشرق الأوسط. وربما يكون هذا الفهم سبباً في دعوة حسن نصر الله مسلحي حزبه للتهيؤ لاحتمالات هجوم إسرائيلي. مقرراً التمسك المسبق بحالة الدفاع الذاتي التام، بكل ما يعني من عدم استعداد للقيام بأي عمل عسكري مساند لحماس، فحقق لإسرائيل عملية الفصل الطوعي للجبهات ومعالجتها على انفراد. لقد قيل كثير من الكلام عن دعم إيراني لحماس، لكنها لم تجد في ذروة التصادم الحاسم، على أرض الواقع شيئاً من الدعم غير الضجيج الإعلامي، الذي لا يقدم، رغيف خبز أو طلقة كلاشنكوف، ولن ترى حماس صاروخاً واحداً من طراز شهاب وغيره من الصواريخ الإيرانية يطلق على إسرائيل، لأن وجودها، من وجهة النظر الإيرانية، لم يكن مبنياً على إيمان بحقوق فلسطينية، بل وسيلة إزعاج لإسرائيل، وإرباك لخصومها، لا أكثر، وما دعوة المرشد الإيراني للدول العربية للتحرك، إلا جزء من المخططات الدعائية الاستهلاكية، فيما جاءت دعوة حسن نصر الله لجنرالات الجيش المصري للتدخل والتحريض على وسائل زعزعة الأمن، كجزء من التوجهات الإيرانية لإحداث بلبلة وانفلات في المنطقة العربية لمصلحة البرامج الإيرانية، وتشكيل حاجز دفاعي مضاف يمنع التفكير في الملفات الإيرانية الشائكة.
وأثبتت ردود الفعل الإيرانية في حرب غزة، أن صواريخ شهاب وغيرها من الصواريخ الإيرانية، لم تُصّنع لرد عمل تقوم به إسرائيل، بل هي مصممة تجاه دول الجوار العربي، وتحقيق أهداف إيرانية صرفة، وإلا ألم يقل الرئيس الإيراني وكبار مسؤولي النظام بأن إيران أصبحت قوة صاروخية ضاربة على مستوى العالم؟.ألم تسقط الأقنعة المهلهلة؟
ولقد ثبت خلال الحروب العربية عموماً، والعراق تحديداً، أن التظاهرات لا تجدي نفعاً، مقابل حرب يصمم الطرف الآخر على خوضها، ولا بد من الجنوح الى العقل، وتدخل كل الأطراف لوقف الخسائر المادية والبشرية المؤلمة، ولا بد من عودة كل الحركات والمنظمات العربية الى حضن المحيط العربي، وتفادي الانجرار المستمر وراء الدعايات وعمليات التحريض الإيرانية. فإيران تسعى علناً الى تفجير المنطقة العربية، لفرض مشاريعها التوسعية القديمة الجديدة، وهي لا تمتلك حليفاً ولا تدافع عن صديق.
العرب اليوم، قالوا أم تكتموا، باتوا في حالة قلق عميق من الدور الإيراني، ومن يسعى إلى تعبئة الجهد العربي لمصلحته، عليه أن يبتعد عن إيران، وأن يسعى الفلسطينيون إلى التصالح في ما بينهم.