هذا الزمن العربي هو زمن الطفرة النفطية الثالثة.. وزمن جوع غزة وحصارها..
البشرى العربية السارة أن برميل النفط العربي قد تجاوز المئة دولار.. وبالمقابل ارتفع منسوب الدم في غزة بما يكفي ليكون مادة للتأسي وعنواناً للمنابر والتسويات..!
هذا زمن للغرائبية الساخرة.. زمن نموذجي عربي بامتياز..
في غزة ، يترصد الموت الأطفال بسيف اللهب كما بسيف الرغيف، وزجاجة الحليب والبرد والتيه..
في غزة يحاصر الاحتلال الحياة بعد أن فشل في كاسر إرادة المقاومة.. يستخدم كل وسائل الحصار والقهر: يقطع الكهرباء، ويمنع وصول الوقود والطعام والدواء.. يزج بالأضلاع والأطراف في برد الشتاء، ولا يجد الغزيون حتى الحطب الكافي لشيء من الدف لأطفالهم..لكنهم لا يرفعون راية الاستسلام..
في غزة لا ماء لا دواء ولا هواء سوى ذلك المشبع برائحة البارود وقذائف المدفعية والصواريخ الصهيونية..
في غزة ثمة شعب تشترك في مواجهته خناجر متعددة لها أسماء العدو والشقيق..
...
الضوء الصناعي يغمر المدن والعواصم على هذه الأرض العربية، وفي غزة ظلام دامس تضيئه قناديل المقاومة بنور حقيقي..
النفطيون العرب يحتفلون يومياً في الإعلانات الاقتصادية بإحراز آبار الذهب الأسود أسعاراً جديدة وسيولاً من الثروات من أجل بناء القصور، بينما غزة تنضح أيامها من آبار الدم والشهادة..
المعتدلون العرب آمنون في ظلال السيد الأميركي ، بينما تقف غزة بجراحها تحت وطأة القصف والقتل اليومي..
في غزة، في مشهد غزة العربي، وعلى الملأ العربي، هناك تتواصل حرب الإبادة الصهيونية، وحرب الجوع ، وحرب يخوضها بالوكالة عرب يتباهون بأنهم يلتزمون بنصيبهم من الحصار على غزة، وحرب صهيونية يذكي إوارها البعض بحسابات الغالب والمغلوب في الداخل الفلسطيني.. كل ذلك، في وقت يقدم فيه الكثير من العرب مدائح الحب الكبير للسلام الصهيوني وينتظرون فرص التطبيع على أحر من الجمر..
والصورة لم تكتمل بعد.. ففي مشهد حصار غزة ومحاولة تركيعها، يتوعد قادة الجيش الصهيوني اليوم، يتوعد رئيس أركانهم غابي أشكنازي ووزير حربهم باراك، يتوعدان قطاع غزة بعملية عسكرية وشيكة أشد دموية من سابقاتها..
وبذلك تكون دائرة التسوية قد اكتملت.. كل ما تحتاجه هو دم فلسطيني آخر.. لا بد لمشهد أنابوليس من مشهد حرب مقابل في غزة كي يكتمل.. لابد للمذبحة السياسية من مذبحة واقعية على الأرض.
صرخة غزة اليوم تملأ سماء هذه الأرض العربية، فلا تصل مسامع المعتصم. وصرخة القدس أعلى ولا من مجيب.. لقد تُركت غزة وحدها كما تركت القدس، كما تركت الخليل ونابلس وجنين من قبلها، كما تركت حيفا ويافا والجليل زمن النكبة.. وليس ذلك تاريخاً يعيد نفسه، وإنما هو سلسلة من حكاية خديعة الأسوار أمام جحافل الغزاة منذ أول التتار، حيث هناك على الدوام أحصنة طروادة العربية..!
ما من كلام أو بلاغة يمكن أن تصف مشاعر الغضب والقهر والألم التي تتملك القلب أمام هذا الواقع الأسود..الكلمات الأقرب إلى الخاطر الآن هي للشاعر مظفر النواب التي قالها مرة عن القدس وقد رميت كالسبية تحت وطأة جلادها... الكلمات تقول (بعد حذف ضروري) كانت القدس عروس عروبتكم فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها!!! ..
والحال اليوم ينطبق على غزة.. والتشبيه لا يبتعد عن واقع حصارها !