تظل قضية فلسطين هي أم القضايا في العالم الإسلامي، وعند كل المسلمين، تهز ضمائرهم وتقلق مضاجعهم، وتؤرق نومهم، وتظل كذلك هي الميدان الذي تدور فيه معركة دائمة ومستمرة بين الحق والباطل، بين أصحاب الأرض والعرض الحقيقيين الأصليين، وبين الغزاة المغتصبين، شذاذ الأفاق، ويظل ذلك محتدمًا حتى يتحقق وعد الله، وحتى يقول الحجر والشجر- كما يذكر الحديث الشريف- "يا مسلم يا عبد الله خلفى يهودي تعالى فاقتله"، وتظل هذه القضية هي المقياس أو "الترمومتر" لحيوية العالم الإسلامي وقربه أو بعده عن منهج الإسلام، عبادةً وجهادًا، إيمانًا وعملاً، وجودًا وعدمًا.
وهي كذلك حجة على كل أجيال المسلمين وناقوس خطر يدق في آذان الجميع..
* ولقد سارع العدو الصهيوني ومن خلفه أفواج غفيرة ممن يؤيدهم ويؤازرهم من المتصهينين في الغرب والشرق ومن العرب أنفسهم، سارعوا إلى اغتيال الشيخ القعيد، الذي كان أمة، وأحيا الله به الأمة، لأن الشيخ كان من صدارة نموذج المقاومة، والفتك به إلى حد التمثيل بجثته أريد به اغتيال كل ما كان يمثله، وهو ما يعني أن الصواريخ التي صوبت نحو الشيخ استهدفتنا جميعًا، وأريد لها ليس فقط أن تمزق جسده وإنما أيضًا أن توهن من عزائمنا وتشيع اليأس والهزيمة بين المسلمين عامة والفلسطينيين خاصة.
* لقد كانت فلسطين واضحة وماثلة في ذهن ومفهوم الشيخ الشهيد- وهكذا يجب أن تكون- إذا إن فلسطين- لكل مسلم- ليست وطنًا يسكنه مسلمون فقط، إنها مسرى النبي- صلى الله عليه وسلم- والأرض المباركة، فتسمع له يقول- رحمه الله وتقبله من الشهداء-: "نحن في أرض الرباط، نحن في أرض الجهاد، نحن في صرة الكرة الأرضية، نحن في ملتقى القارات، نحن محل أطماع الدول الكبرى، ونحن في مهبط الرسالات وموطن النبوات، نحن في أرض الإسراء والمعراج، نحن في أرض المحشر والمنشر، مسجدنا الأقصى أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين بني بعد المسجد الحرام بأربعين سنة، أين كانوا في ذلك الزمان، وأين كان هيكلهم المزعوم؟!، نحن يا أخا الإسلام جند من جند الله، نحن من الإخوان المسلمين في فلسطين، وهذا شعارنا، الله غايتنا والرسول قدوتنا والقرآن دستورنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا".
* ما أحوج الأجيال التي جاءت بعده، أن تتمثل حياته وجهاده، وأن تنزل أقواله وأفعاله إلى عام الواقع وحيز التنفيذ، وأن تصطبغ في فكرها وثقافتها وتربيتها، في صحوها ونومها وبرامج حياتها، بما اصطبغ به شيخها ومربيها الشيخ أحمد ياسين، وأحسب ذلك في حسبان هذه الأجيال، وأنها بإذن الله ثمرة من ثمرات غرس الشيخ الجليل المجاهد.
* وهنا نورد بعض أقوال الشهيد التي جمعها الأستاذ عامر شماخ في كتابه القيم (شهيد أيقظ أمة) صـ96، فنراه يقول:
* أنا كرّست حياتي للعمل وليس للكتابة.. وحياتي كلها كانت تطبيقًا لما أقرأ وما أتعلم أنقل ما تعلمت إلى واقع الحياة فإن تعلمت آيةً أو حديثًا قمت وعلمته للناس.
* النصر قادم والتحرير قادم، المهم أن نجعل مع دعائنا شيئًا من العمل لدعم شعب فلسطين ومعركة شعب فلسطين لنصل إلى يوم النصر والتحرير.
* السر يكمن في الإرادة وإيمان الإنسان بالمبدأ الذي يسير عليه، "فالدنيوي" لو أن الدنيا ذهبت منه فقد خسر كل شيء ولكن الإنسان المؤمن الذي يؤمن أنه ذاهب إلى جنة عرضها السموات والأرض يريد أن ينتقل من دنيا فانية إلى الراحة والطمأنينة والاستقرار عند رب العالمين، فهو ينتظر هذا اليوم ويستبسل ويقاتل من أجل الفوز في هذا اليوم ويثبت في الميدان حتى آخر رمق في حياته.
* ولو ذهبنا نستقصي كل أقواله ما استطعنا، ولكن حسبنا أن نشير إلى أنه رحمه الله تربى في مدرسة الجهاد الحق، وأنه ورّث ما أكرمه الله من فضل إلى أجيال لاحقة، هي ثابتة بإذن الله في الميدان، وأن هذا التوارث سيظل سمة وعلامة لاستمرارية المقاومة والممانعة، وهى سنة الله ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة: من الآية 251)، ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلََ﴾ (الرعد: من الآية 17).
* وفي ذكرى استشهاد الشيخ، لا بد أن يستقر لدينا أنه- رحمه الله- ليس أول الشهداء ولن يكون آخرهم ما بقي احتلالٌ يجثم على أرضنا، المهم أن تبقى جذوة المقاومة والمدافعة مشتعلة، ليس في ميدان النزال فقط، وإنما في باقي الميادين، التربوية والفكرية والإعلامية والثقافية، والتعبوية الشاملة إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.
* انتصار "حماس" من ثمرات فكر الشهيد:
هل انتصرت "حماس" وفصائل المقاومة في معركتها الأخيرة؟ وهل ردت جحافل الغزو الصهيوني على غزة على أعقابها خاسرة؟
نقول: نعم لقد انتصرت "حماس" والمقاومة وأثبتت للدينا كلها أن الانتصار في المعارك لا يكون بقوة السلاح والعتاد، ولا بكم آلات الدمار الشامل، وإنما هناك عوامل أخرى منها، قوة إرادة الطرف الآخر وصدق إيمانه، ومحورية القضية، وثبات المقاتلين عليها، واستمداد النصر من الله عز وجل، وتأييده سبحانه بمدد من عنده، ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)﴾ (الأنفال).
وهذا الأمر- أمر معية الله للمقاتلين- ظهر جليًا في كل المنازلات التي تمت قديمًا وحديثًا، وهو مرشح للاستمرار ما دامت شروطه ومستحقاته متوافرة فيمن يتنزل عليهم، وأحسبها كانت كذلك في غزة، وفي غير غزة بإذن الله.
* لقد هزمت "إسرائيل" رغم أنها تملك ترسانة عظيمة من الأسلحة المختلفة الجوية منها والبرية والبحرية وتملك خبرات عالمية في الأسلحة المحرمة دوليًّا وتساندها أقوى دول العالم على الإطلاق وتقيم معها جسرًا عسكريًّا جويًّا وبحريًّا لم يتوقف قبل العدوان وأثناءه وبعده، كما أن لها شرطًا ثانيًا على أمريكا أنها كلما باعت دولة عربية أي نوع من أنواع الأسلحة يجب أن تعطيها مقابله السلاح الأحدث والأعظم وأن تأخذ النسخة السرية من خصائص ذلك السلاح وتفصيلات تامة عنه.
* ومن دلائل النصر كذلك أن العدو الصهيوني كان يظن أنه بقوته الغاشمة سيقضي على قدرة حماس الصاروخية والعسكرية وامتدادها الشعبي بشكل مطرد، ثم يؤدي ذلك إلى اغتيال قيادات "حماس" العسكرية والسياسية حتى لا يبقى إلا الضعفاء بلا قيادة، ولقد كانت هناك قوات من فصائل "فتح" تحت قيادة "دحلان" متأهبة للانقضاض على غزة فور انتهاء العدو من مهمة القضاء على قيادات "حماس"، لاستلام غزة ولكن الله خيب ظن الجميع ورد كيدهم إلى نحورهم.
* وفي الوقت الذي ظن فيه الأعداء (اليهود ومن والاهم) أنهم سيكاسرون إرادة المقاومة الجادة ويطوون ملف القضية الفلسطينية إلى الأبد، إذا بالآية تنقلب، وإذا بالعدو يفر من الميدان يجر أذيال الخيبة والإحباط، ويتكبد خسائر في جنوده تصل إلى 80 جنديًّا وضابطًا بخلاف العدد الكبير من الجرحى والمرعوبين، وإذا بالدراسة تتعطل وتشل الحياة اليومية الاعتيادية في العديد من المدن المحتلة في فلسطين، وإذا بالعدو بعد فشله الذريع في تحقيق أهدافه يعلن وقف إطلاق النار من جانب واحد بعد اثنين وعشرين يومًا من المحاولات البائسة واليائسة.
* وكان من نتائج ذلك كله، أن ميزان الحسم جاء في صالح "حماس" والمقاومة، بعدما كاسرت عنفوان العدو المعتدي وازدياد تعاطف شعوب العالم مع "حماس"، وحركات المقاومة الجادة التي وقفت مع شعبها، وعرت الذين اختاروا مقاعد المتفرجين وكشفت المتواطئين عربًا وفلسطينيين.
* وكاسبت "حماس" شرعية جديدة إضافة إلى شرعيتها وهي شرعية المقاومة الصادقة الجادة وقت الشدة.
* شهادة العيان:
يقول أحد الأطباء الذين ذهبوا إلى غزة لعلاج المرضى والجرحى: (إنني أحس أن هذا الشعب كله مقاومة وغير مقاومة بشر غير البشر، رجال غير الرجال، نساء غير النساء، أطفال غير الأطفال، نعم هذا الشعب بكل أطيافه وطوائفه ملحمة تاريخية واقعية متجسدة على أرض الرباط) ويستطرد فيقول- بارك الله فيه- (أجل لقد توقعنا أن نرى شعبنا غير الذي رأيناه.
جزع وهلع، خوف واستسلام، لكنا رأينا صورة أخرى، رأينا نماذج من الثبات والصمود، نماذج من العزة والكرامة والإباء، هكذا في كل الأعمار وكل الفئات لا يفرق مقاوم عن شخص عادي، لا يختلف أفراد الشعب عن أفراد حماس)، وهنا أسأل بدوري ما الذي جعلهم هكذا، في فترة وجيزة من الزمن يتحولون هذا التحول العجيب، يتحولون من طيور داجنة خائفة إلى أسود مرعبة مخيفة، وتأتي الإجابة أن ذلك كله نتاج مدرسة الشيخ الشهيد أحمد ياسين ورعاه أبناؤه البررة الذي تولوا السلطة من بعده وكانت سيرتهم في الشعب سيرة الأوائل الصالحين فنشروا العدل، وحكموا بالسوية، وكانوا قدوة صالحة في نظافة اليد وطهارة الذيل، والعفة عن المال العام، ونشروا الفضيلة وحاربوا الرذيلة وطهروا مناهج التعليم ووسائل الإعلام والثقافة والقانون والفن وغير ذلك من مناحي الحياة من كل دخيل وغريب عن مصادر الإسلام الصحيحة.
وبعد..
ولقد آثرت أكتب أول ما أكتب بعد أن منَّ الله علينا بالخروج من محبسنا أو اعتقالنا فترة الشهرين والنصف- في موضوع يتصل بجهاد غزة الصامدة، وفي ذكرى استشهاد رائدها الشيخ أحمد ياسين، خاصة أن اعتقالنا كان من أجل نصرة غزة، ومؤازرة شعبها الباسل.
ونحسب أن ما قدمناه يعتبر أقل القليل مما يجب أن يفعله جميع المسلمين في كل مكان تجاه هذه القضية العظيمة، قضية فلسطين، ووقوف أهلها تجاه الهجمة الشرسة من البرابرة المعتدين.