- أما انطواؤه على الخطأ فلأن الكلمة في جذورها الأوربية لا علاقة لها بالعلم، فهي في اللغة الإنجليزية (ykqlou`.h,)، وهذا التعبير لا صلة له بالعلم؛ فالعلم في كل من الإنجليزية والفرنسية ز ذ ف ض ذ ا، والمذهب العلمي يطلق عليه ن ض ه ف ز ض ذ، أما هذه الكلمة (غ ن ض م خ و ذ ز ا) فهي اللا دينية أو الدنيوية، فنسبتها إلى العلم نسبة خاطئة؛ لانبتات الصلة بين العلم وبين هذا التعبير في جذوره الأوربية.
- وأما انطواؤه على التلبيس والإيهام فلأن في نسبة هذا التعبير إلى العلم ما يحجب حقيقة المعنى الذي يتضمنه هذا التعبير، ويدخله في دائرة القبول العام، خاصة أن مجرد الانحياز إلى العلم لا يعني نبذ الإيمان أو استبعاد الدين بالضرورة، بل لابد لإبراز هذا المعنى من التحليل والتوضيح، الأمر الذي تأباه طبيعة المصطلحات.
وعلى هذا فإن المعنى الصحيح لهذا التعبير هو الفصل بين الدين والدولة، بل بتعبير أدق الفصل بين الدين والحياة، وعدم المبالاة بالدين أو الاعتبارات الدينية، ونزع القداسة عن المقررات الدينية والتعامل معها كمواريث بشرية بحتة وقصر الدين على جانب الشعائر التعبدية الفردية البحتة باعتباره علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه.
وهذا المعنى نجده مقررًا في دائرة المعارف الغربية، ولا يثير إدراكه عندهم على هذا النحو حساسية ولا التباسًا.
يقول معجم أكاسفورد شرحًا لكلمة (م خ ع و ذ ز ا):
1- دنيوي أو مادي، ليس دينيًّا ولا روحيًّا: مثل التربية اللادينية في الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة.
2- الرأي الذي يقول إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساسًا للأخلاق والتربية.
ويقول قاموس (العالم الجديد) لوبستر شرحًا للكلمة نفسها:
1- الروح الدنيوية، أو الاتجاهات الدنيوية، ونحو ذلك وعلى الخصوص نظام من المبادئ والتطبيقات (ن ز ذ ض ه ذ خ م ) يرفض أي شكوى من أشكال الإيمان والعبادة.
2- الاعتقاد بأن الدين والشئون الكنسية لا دخل لها في شئون الدولة خاصة التربية العامة.
ويقول المعجم الدولي الثالث الجديد كلمة (غ ن ض م خ و ذ ز يا):
اتجاه في الحياة أو في شأن خاص يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب ألا تتدخل في الحكومة، أو استبعاد هذه الاعتبارات استبعادًا مقصودًا، فهي تعني مثلاً السياسة اللادينية البحتة في الحكومة.
وهي نظام اجتماعي في الأخلاق مؤسس على فكرة وجوب قيام القيم السلوكية والخلقية على اعتبارات الحياة المعاصرة والتضامن الاجتماعي دون النظر إلى الدين.
نشأة العلمانية:
لم تنشأ العلمانية في بلاد الإسلام، ولم تعرفها أرض المشرق بصفة عامة، وإنما كانت نشأتها في أوروبا الصليبية في أعقاب صراع طويل بين الكنيسة وبين السلطة الزمنية؛ حيث سيطرت الكنيسة على كل شيء، فالعلم والتربية والأخلاق والسياسة والاقتصاد والحكم والأدب والفن مرده إلى سلطان الكنيسة، وكل ما خالف تفسيرات الكنيسة ومقولاتها فهو باطل، وكل من اعتنق شيئًا مخالفًا لما تقول به الكنيسة وجبت محاكمته، وربما وصل الأمر بهم إلى إعدامه حرقًا، ولقد بلغ الذي صدرت ضدهم أحكام من الكنيسة 340 ألفًا حتى سنة 1801م، وأحرق مائتان أحياء، ولم يكن هذا الأمر محتملاً لا من جمهور الناس ولا من العلماء والمفكرين.
فكان التمرد السياسي على الكنيسة من قبل بعض الملوك كما فعل فريدريك الثاني الذي أقام إمارة علمانية في جنوب إيطاليا وكان جريئًا ثائرًا على القديم في جميع مناهجه وآرائه، ولهذه نعته معاصروه بأنه أعجوبة العالم.
ثم كان التمرد العلمي من قبل كثير من العلماء الذين أعلنوا إيمانهم بحقائق العلم التي تخالف مقررات الكتاب المقدس، والذين ووجهوا بالحرمان الكنسي، وبأحكام مختلفة انتهت ببعضهم إلى الإعدام حرقًا.
ثم تتابعت صور التمرد ضد الطغيان الكنسي تتصاعد حينًا وتخبو حينًا آخر حتى انتهى الأمر بأطراف هذا الصراع إلى هذه المثنوية التي تمثلها هذه العبارات الكنسية الشائعة: (أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله).
موقف الإسلام من العلمانية:
العلمانية والإيمان نقيضان، فإن الإيمان يقتضي الانقياد والإذعان لما جاء من عند الله، والعلمانية تقتضي التمرد على الوحي، والكفر بمرجعيته في علاقة الدين بالحياة، وإطلاق العنان للأهواء البشرية بلا حدود.
الإيمان يقتضي تعظيم شعائر الله وتقديس كتابه والتعبد بطاعته، والعلمانية تقتضي - كما سبق - نزع القداسة عن جميع المقررات الدينية، والتعامل معها باعتبارها مورايث بشرية بحتة تخضع لما تخضع له سائر المفاهيم البشرية من النقد والتعديل أو الإلغاء بالكلية في ضوء ما تقتضيه المصلحة البشرية البحتة.
والعلمانية بهذا النحو لا تجتمع مع أصل دين الإسلام، بل إن شئت الدقة لا تجتمع مع أصل دين سماوي بوجه من الوجوه، فهي شرك في التوحيد ونقض للإيمان المجمل، وهي ثورة على النبوة، وهدم لأصل الدين وحقيقة الإسلام.
وليس هذا التقرير من مجازفات الأقوال ولا من شطحات الأقلام بل هو الحقيقة التي تحتشد لإثباتها حقائق الكتاب والسنة، وفيما يلي تفصيل القول في ذلك:
العلمانية شرك في التوحيد:
العلمانية شرك في التوحيد في جانبي الربوية والألوهية:
أما كونها شركًا في التوحيد في جانب الربوبية؛ فلما تتضمنه من منازعة الرب -جل وعلا- في جانب الهداية والأمر الشرعي؛ ذلك أن الذي تفرد بخلق هذا الكون تفرد كذلك بحق هدايته وتوجيه الخطاب الملزم إليه.