فالخلق والأمر من أخص خصائص الربوبية وأجمع صفاتها، كما قال تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54].
والأمر في لغة الشارع يأتي بمعنيين:
الأول: الأمر الكوني وهو الذي به يدبر شئون المخلوقات، وبه يقول للشيء كن فيكون، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر: 50].
الثاني: الأمر الشرعي: وهو الذي به يفصل الحلال والحرام، الأمر والنهي وسائر الشرائع، ومنه قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24].
وإذا كانت البشرية لم تعرف في تاريخها من نازع الله في عموم الخلق أو الأمر بمفهومه الكوني فقد حفل تاريخها بمن نازع الله في جانب الأمر الشرعي وادعى مشاركته فيه، فقد حكي لنا القرآن الكريم عن من قال: ﴿سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ﴾ [الأنعام: 93]، ومن قال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر: 29]، ورأينا في واقعنا المعاصر دعاة العلمانية وهم يقولون: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة! بل من اجترأ على ربه وقال: إن القوانين الوضعية خير من الشريعة الإسلامية؛ لأن الأولى تمثل الحضارة والمدنية، والثانية تمثل البداوة والرجعية!!
ولا يتحقق توحيد الربوبية إلا بإفراد الله -جل وعلا- بالخلق والأمر بقسميه: الكوني والشرعي، وإفراده بالأمر الشرعي يقتضي الإقرار له وحده بالسيادة العليا والتشريع المطلق، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، ومن سوغ للناس اتباع شريعة غير شريعته فهو كافر مشرك.
وقد اتفق الأصوليون أجمعون على أن الحاكم لجميع أفعال المكلفين إنما هو الله -عز وجل- فهو وحده مصدر جميع الأحكام الشرعية؛ ولذلك اشتهر من أصولهم: (لا حكم إلا لله).
حتى هؤلاء الذين قالوا باستقلال العقل بمعرفة بعض الأحكام الشرعية لم ينازعوا في هذا الأصل السابق، وإنما كان نزاعهم حول كيفية التعرف على حكم الله -عز وجل-، فدور العقل عندهم هو دور التعرف على حكم الله الكاشف عنه أحيانًا، مع اتفاق الجميع على أن الحاكم الذي يصدر الأحكام وينشئها إنما هو الله -عز وجل-، ومن هنا كان اتفاقهم على تعريف الحكم الشرعي بأنه: (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلبًا أو تخييرًا أو وضعًا).
وقد كانت ربوبية الأحبار والرهبان في بني إسرائيل في باب التشريع؛ فقد أحلوا حرام الله وحرموا حلاله، فتابعهم الناس على ذلك، فلم تكن الربوبية فيهم في جانب الخلق أو الأمر الكوني، بل كانت في جانب الهداية والأمر الشرعي.
عن عدي بن حاتم أنه سمع النبي × يقرأ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ﴾ [التوبة: 31]، فقلت: إنا لسنا نعبدهم، قال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟"، فقلت: بلى، قال: "فتلك عبادتهم"، رواه أحمد والترمذي.
فحقيقة الإقرار بالربوبية لا تتمثل في إفراد الله -جل وعلا- بالخلق والتدبير الكوني فحسب بل تمتد لتشمل إفراده تعالى بالأمر والقضاء الشرعي، وقبول ما جاء به رسوله × من الهدى والشرائع؛ وذلك لأن المنازعة في الأمر الشرعي كالمنازعة في الأمر الكوني ولا فرق، فإن الذي أوجب الرضا بقدره هو الذي أوجب التحاكم إلى شرعه، وهو القائل: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [يوسف: 40]، والقائل: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ﴾ [الشورى: 21].
والإقرار المقصود في هذا المقام هو الإقرار الانقيادي الذي يعني إنشاء الالتزام، وليس مجرد الإقرار الخبري الذي لا يتجاوز دائرة التصديق والإخبار، فلو أن رجلاً أقر بصدق ما جاء به النبي × ولم يتبعه على ذلك بل حاربه وعاداه فإنه لا يكون موحدًا بحال من الأحوال.
أما كونها شركًا في التوحيد في جانب الألوهية؛ فلما تمهد في حقائق التوحيد من أن توحيد العبادة ينتظم جانبين رئيسين: توحيد الإرادة والقصد وتوحيد الطاعة والاتباع.
أما توحيد الإرادة والقصد فيراد به إفراد الله بالشعائر التعبدية كالصلاة والحج والدعاء والنذر والذبح ونحوه.
وأما توحيد الطاعة والاتباع فيراد به إفراد الله بكمال الخضوع والطاعة وإخراج المكلف عن داعية الهوى حتى يكون عبدًا لمولاه، وذلك بتحكيم شرعه وحده، والقبول التام لكل ما جاء به نبيه × والبراءة من كل ما سوى ذلك من الأهواء البشرية.
وإلى هذين الجانبين يشير قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 161: 163].
فالآية الأولى تشير إلى توحيد الطاعة والاتباع، فلا يتلقى الهدى إلا من الله، والآيتان اللتان بعدها تشيران إلى توحيد الإرادة والقصد، فلا يتوجه بالأعمال إلا إلى الله.
فالانقياد لله -عز وجل- والتزام طاعته هو أحد ركني العبادة، فمن زعم حب الله -عز وجل- وتصديقه ولكنه رفض الطاعة له وأبي الانقياد لأمره، ورسم لنفسه طريقًا آخر مضادًّا للصراط المستقيم الذي أمر الله به واتخذ ذلك منهجا ثابتًا وديدنًا مضطردًا فقد كفر بألوهية الله عليه، وجعل نفسه ندًّا للذي خلقه، فإذا ما انضم إلى هذا أن والى على ذلك وعادى على ذلك، وشرح بهذا التمرد صدرًا، وأقسم على احترامه والتمسك به، وصب ويله وبطشه على كل من دعا إلى خلافه من إقامة الدين والتزام شرائعه كما ديدن الطواغيت في واقعنا المعاصر فقد شهد على نفسه بما لا ينبغي أن يختلف عليه من الإشراك والردة.
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121].